اخبار منوعة

اخبار الارض المحتلة

اخبار وطنية

لحظة تمزيق الكفن .. نقد أدبي


211بقلم : محمد السالك احمد
سرحت بعيدا مع من سرح من قراء تلك القصص القصيرة التي غيرت بوجه الأدب الصحراوي دراجات منفرجة اشد الانفراج من واقع يمجد البطولات و الأبطال إلى أخر “يفنڴر” عن جراح الواقع الاجتماعي المعيش كمرحلة كان من الطبيعي أن يلمها الأدب لولا انغماسه آليا إلى جانب المدفع في ثورة التحرير.
“تسول عاطفي” و قبله عناوين أخرى لقصص قصيرة تتقاسم نفس الأهمية و المنزلة السامقة و القيمة الأدبية التي أضافتها أديبتنا المتألقة الحسينة حمادي البربوشي إلى معين الأدب العربي الصحراوي و لكن في حلة جديدة تتسم بالجرأة المباشرة في اقتحام بؤر ملقمة بقنابل العادات و العرف الذي ما يزال يسيطر على الكثير من إبداعات أدبائنا.
في قصتها الأخيرة “تسول عاطفي” تحاول الكاتبة أن تنقب عن ظاهرة اجتماعية معاشة و لكنها متجاهلة من طرف الجميع إلى درجة أنها صارت مفتاحا سحريا معتادا لدى الفتاة المسكينة اليائسة من ضبابية مستقبلها “.. فهمت أن المفتاح السحري له ما عاد الوقوع في الحب بل الوقوع في السمنة وبياض بشرة يغري رجلا ليترك عليه من الخدوش ما يشاء.. تلك المواصفات كانت توجد في سلة مشتريات فيكفي أن تنظم زيارات للمرسى حتى تصبح مشروع زواج قريب ” ، لتعبر الطريق إلى تشريح الواقع الأنثوي المميت تحت خويمات اللجوء بين صناعة الثورة لجلب الاستقلال و صناعة الجمال لجذب الرجال، و من ثم رمتنا بنتيجة صاعقة لمجتمع محافظ ينتهج في أبجدياته سياسة التكاثر، التماسك الأسري و “تلاحم الأرواح”، لتمضي بعيدا في اكتشاف الأغوار التي استصعب على الذكر اكتشافها إلا بعد لحظات “.. وبعد مرحلة جمالها العابر عبرت أيضا ذكراها لدى رجل لا يعني موتها إلا تناسل زيجاته” ثم تضيف “..هذا الزواج هو غنيمة كيلوغرامات زائدة وسعادة عمرها قصير فلا يعني انخفاض الوزن سوى احتضارها.”، لتضحى قصتها هذه في نظر أسلامة الناجم “لغة راقية ورائقة، وقصة محبوكة بأنامل محترفة، تضع أمامنا واقعنا عاري من كل أردية المجتمع والزمن والعادات والتجارب و المفاهيم الخاطئة”.
أخذت في نسج قصتها القصيرة خصوصيات تشكيلية معقدة لفسيفيساء واقع جميل في رؤية الغرباء و تعيس و يائس من الداخل في نظرها، “صريحة إلى حدود الجرأة في تناول واقع معقد، زاده اللجوء “السرمدي” تعقيدا”، كما أشار أسلامة، و بحضورها الإبداعي الأنثوي حازت على الانفرادية في تناول المواضيع اللصيقة بنظيراتها من نساء المجتمع البيظاني.
و رغم بساطة الكاتبة و انفتاحها ـ لمن يعرفها ـ تفادت البساطة في المفردات و الأساليب و جعلت من الأفكار كومة مشتعلة تلتهم التخمين الدوني و ترسم سلما متصاعدا للإصلاح الأنثوي داخل مجتمع أصبح يقدس المظاهر المادية و الفيزيولوجية على القيم النبيلة الضاربة في أعماق التقاليد و الثقافة الحسانية، فتقديمها و تأخيرها في نظام الفقرات و خلطها العبثي المقصود، يجعل القارئ سائحا في تركيب شتات قصة في صورة متكاملة من عبث أناملها المبدعة، كأنها رقصة من رقصات الأيادي المخضبة بالحناء ترسم رغبات مكبوتة في الفراغات البيظانية العتيقة.
كذلك، استطاعت الكاتبة أن تبرز هويتها الحقيقية حتى و إن لم تبح بها من خلال إسقاطها لبعض الجمل و الأمثلة الحسانية في نصها الأدبي على غرار مجمل الكتاب العرب كالأديب طه حسين مثلا في سيرته الذاتية “الأيام”، ليس تقليدا و إنما تلقائيا بحكم الموضوع المتناول ـ الزواج ـ و ما يرافقه من الأهازيج الشعبية المعروفة لدى مجتمع البيظان و من ذلك قولها “أللا لعاد عرسوا التالي ” و في موضع آخر تورد “طاحت أعليه كوزينة” أي ازدادت له بنت، كما تمكنت و بأسلوب قوي و فريد أن تطوع بعض الأفكار القابعة في مرابض اللهجة الحسانية إلى أساليب عربية تصنع لها مهدا و حياة جديدة في الأدب كـ ” الكلام المازح هو حقيقة نعجز عن قولها في الواقع ” نيابة عن قولنا “أكلام الحڴ ينڴال ف لعيارة”.
فاستخدامها لمفردات و أفكار متمردة في نظر البعض جعلها تنزوي عن صف الجنس الأنثوي الصحراوي الذي حرمه المجتمع من ولوج عالم الأدب حتى في أزمنة غابرة، حيث كان لا يسمح للمرأة الصحراوية بقول الشعر أمام الملا بحكم الاحتشام و الخجل العصبي، مع العلم أنها كانت تبتكر لنفسها جنسا أدبيا خاصا بها، كان لا يشاع إلا بين قريناتها في السر يسمى بشعر “التبراع” الذي لا يخضع لأي بحر و لا يلتزم بأي قاعدة شعرية في منظومة لغنى الحساني، فما بالك بكاتبة محدثة تشهر قلمها في واضح النهار لتقذف بتلك الجمل الجريئة جدا و المتأدبة جدا أمام أعين الرجال و ضد مستقبل النساء العازبات خاصة.
لكن قد لا يعني دمجها دائما لجمل صريحة جدا كسرها للحياء الاجتماعي، ما دامت تمتلك ناصية اللغة التي طوعتها في خدمة أناملها الفنانة، فبدلا أن تلغي بألفاظ مباشرة في نصها “تسول عاطفي” راحت تتلاعب بالمفردات التي وفقت في اختيارها إلى حد بعيد “.. عطب الليلة الأولى..”، .. فلا باس من أن نعيش قانون أسرة قائم على خذ وهات..”، “.. تحسست بطنها الخالي إلا من بقايا رغبات مشنوقة..”، “..واقع الليالي الباردة ورغبتها اليائسة في تمزيق الكفن..” ، و بذلك تكون قد تجنبت ثورة القراء المحافظين و تكون كذلك قد نجت بنفسها من سوط ثقافة “أفلانة مارڴة ليد”، كعرف آخر لطالما وقف في وجه الكثير من البيظانيات المثقفات اللاتي وأدن مواهبهن في عز فتوتها، ان كل كلمة تقولها لا تعدو كونها “رشاقة قلم ولباقة تعبير وجرأة نادرة تعطي للكاتبة المتألقة دوما مزيدا من الحضور والاحترام…” كما علق الكاتب و الأديب مصطفى الكتاب.
و بالرغم من أنها معالجة أدبية صادقة الدلالة، إلا أن تناولها كموضوع ما زال يثير تلك الحساسيات العتيقة الخاضعة للكبرياء التقليدي، مع العلم أن الكاتب المسرحي الصحراوي قد سبق له و أن طرق جوانب هامة منها، غير أن الأديب و القاص الصحراوي ما يزال يحمل في قلبه نفس العقدة التقليدية تجاه هذه القضايا التي يراها مجهرية و دونية رغم انعكاساتها و تأثيراتها السلبية على المجتمع الصحراوي عموما.
و بهذه الكلمات الجريئة تكون أديبتنا الحسينة قد هدرت دمها بيدها بين زميلاتها اللائي فضحتهن بين الرجال، لتفتح بذلك أوسع باب للتسول الأنثوي على أعتاب الذكورة من آكلي اللحوم في نظرها “الرجل سبع ويحب اللحم ” و يشتهي ان تظل دوما تلك “الأنوثة جنة صغيرة ”، يعبث بها لحظة تمزق الكفن، او كما قال الكاتب و الصحفي أسلامة الناجم في حق الكاتبة: “..هاجسك منذ أول قصة لك هي العلاقة بين ادم وحواء، والقانون الذي اختطه ادم الشرقي لحوائه، ورغم اتفاقي معك على ظلمه في الغالب، غير أنني أراك تضعين قالبا واحدا لأدم وهذا أيضا ظلم.