اخبار منوعة

اخبار الارض المحتلة

اخبار وطنية

قصة قصيرة


بقلم: غالي الزبير
تزعم العرب أن الضب والنون لايلتقيان أبدا، فالضب موطنه مجاهل الصحراء،أما النون فيعيش في أعماق البحر…
ولكن هذا الزعم تبين أخيراً أنه غير صحيح، فقد ألتقيا عبر الانترنيت الذي كسر كل المستحيلات وألغى أكثر الحواجز وغير كثير من المسلمات.
- مرحبا، اسمي “حلس″، عمري …. سنة ، أعيش في جنة من أجمل جنان الأرض تسمى “تيرس″، أرغب في التعرف على فتاة جميلة، ذات دين وخلق وتقدر الحياة الزوجية.
- أهلا يا “حلس″، أنا “نونة” أعيش في المحيط الأطلسي بين الأمواج المنعشة والتيارات الراقصة، استمتع بوقتي الذي أمضيه مع صويحباتي في ممارسة رياضة التزلج على الأمواج أو الغوص في الأعماق والتفسح بين عجائب البحار التي لا توصف روعتها.
وتواصلت الرسائل الالكترونية التي لاتعترف بالفروق ولا تحسب حسابا للمكان ولا للزمان، وتوطدت العلاقة بين الشابين السابحين في العوالم الافتراضية، متحولة من تعارف إلى إعجاب ثم إلى حب وغرام.
كتب “حلس″ بكل ما أوتي من دقة الوصف ومهارة التعبير ، مصورا خضرة موطنه وطراوة جحره ومتعة الاسترخاء تحت شمس “تيرس″ التي تسطع بروعة تثير الخدر بعد زخات مطرية منعشة تهب في مثل هذا الوقت من كل عام تنتظرها الأرض وأهل الأرض بإحساس باطني عميق هو خليط من القلق المتجاهل والترقب الحذر والأمل المغالب والبهجة المؤجلةالتي لا يعرفها إلا من ذاقها.
وكتبت “نونة” منبهرة بوصف “حلس″ لعالم لا تعرفه ولا يمكنها أن تتخيله إلا من خلال عبارات “حلس″ التي تحسها وإن لم تفهمها بدقة، فترد واصفة روعة عوالمها البحرية وبرودة اعماقها الظليلة وثراءها وتنوعها اللامحدود بالألوان والظلال والاشكال والطعوم والأصوات.
ولكن تلك العلاقة العاطفية المتأججة ككل علاقة حب لم يكن لها بد من أن تبلغ ذروتها، وحينها لم تعد الرسائل الالكترونية تناسب تطورها الذي بلغته، وجاءت لحظة الحسم حين قررت “نونة” الامتناع عن المراسلة، بعد رسالتها التي طلبت فيها من “حلس″ إن كان صادقاً في دعوى حبه أن يتقدم إليها خاطبا كما يفعل أي شاب ناضج، لا الثرثرة عبر الانترنيت كما يفعل الفارغون.
كتب “حلس″ مرات ومرات ولكنه كان يجد صندوق بريده الوارد فارغاً في كل مرة إلا من رسائل “اشهارية” تعود حذفها دون قراءة.
وأخيراً قرر أن يضحي من أجل حبه، عابراً الفلوات، مخترقاً مهالك الصحراء ومجاهلها المخيفة، فكم مرة نجا من وحوش تخرج له من حيث لا يحتسب بفضل مراوغاته المتقنة، وكم من مرة سلم من الجوارح المنقضة بحركاته الالتفافية التي طالما عول عليها في اللحظات الحرجة، وكم مرة نجا من البشر المتهورين وسياراتهم المجنونة التي تظهر له دون سابق انذار فتكاد تزهق روحه لولا لطف الله.
وبعد أيام وليال من السير المتواصل لا يعرف كم هي، وصل شاطئ المحيط، وقد هاله أتساعه اللامتناهي، فهو أكبر بكثير من كل الإضاءات والبرك التي عرفها أو سمع عنها من حكايات الكبار التي لا تخلو من المبالغة في وصف سنوات الخصب التي عايشوها، ولكن المحيط –بلاشك- أكبر من كل ذلك، أنه ماء ممتد وممتد وممتدإلى نهاية لا يدركها البصر، ومن يدري فربما يكون بلا نهاية، كما حدث “حلس″ نفسه وهو يشرف على هذا السهل الأزرق الواسع من حافة جرف شامخ.
وماهي إلا برهة حتى تذكر “حلس″ هدفه الذي قاده إلى هذا المكان، ومن على الجرف الضارب في الأعالي حيث يقف، صرخ “حلس″ بصوت خاله سيبلغ عنان السماء منادياً باسم محبوبته.
أصاخ السمع منتظراً ردهاولكنه لم يتلق جواباً…
عاود المحاولة مرات ومرات حتى هده التعب ولفحته شمس عدوانية زادتها الرطوبة قوة، لكنه لم يسمع سوى زمجرة الأمواج وهدير المياه وهي ترتطم غاضبة بصخور وأجراف الشاطئ التي بدت له موحشة وكئيبة.
أحس “حلس″ أحساساً محبطاً وهو يتذكر قصصاً وحكايات سمعها مرات ومرات عن قسوة قلوب الفتيات اللاتي يتسلين في قسوة بتعذيب محبيهم ويتلذذن بالسخرية من مشاعرهم الملتهبة كما تفعل حوريات البحر حين يغرين البحارة التائهين بحركاتهن الراقصة وما أن يتبعنهن حتى يأخذنهن إلى حيث تقع الدوامات البحرية المخيفة التي تبتلعهم وسفنهم إلى غير رجعة، في حين تتقلب حوريات البحر راقصات بسعادة غريبة.
شعر “حلس″ بالأسى لحاله والغضب لسذاجته، فأنخرط في نشيج وبكاء عميق لم يخرجه منه إلا رؤيته لظل مخيف يغطي الأرض أمام ناظريه، وفي ثوان معدودة أدرك بحدس لا يخطئ حجم الخطر المحدق به، وهو يتأكد بسمعه الحاد من اقتراب نورس مخيف ينقض عليه، وبحركة بارعة مارسها مراراً في مثل هذه الحالات تمكن من تجنب المنقار المخيف والمخالب الحادة التي كادت تفتك به.
وما أن رفع بصره إلى السماء حتى رأى أسراباً من النوارس بين الصاف والقابض خيل إليه أنها كلها تنظر إليه في وقت واحد مما جعله يقرر دون ابطاء أن يندفع بكل سرعة إلى شق ضيق يمتد بعيداً في إحدى صخور الجرف العالي.
طراوة الظل بعد لفح الشمس التي خالها اقرب إلى الأرض من شمسه التي يعرفها في “تيرس″، ومرور تيار هوائي بارد منعش اشعره باسترخاء طارئ هو أحوج ما يكون إليه بعد كل ما لقى، ولم يعرف متى غرق في نوم جعله التعب والإرهاق عميقاً عميقاً، ثم وجد نفسه في حلم غريب، حين شاهد “نونة” راقصة لاعبة بين الامواج مع صويحباتها، ومن بعيد ترأى له مخلوق ضخم مرعب تنعكس أشعة الشمس على سطحه المعدني بوهج غريب وهو يقترب شيئاً فشيئاً من “نونة” وأترابها وهن لاهيات يلعبن ويتراقصن، حتى انهن لم يسمعن صراخ حوت ضخم يطلق اشارة التحذير المنذرة بخطر لا قبل لهم به، أنها باخرة صيد عملاقة. قال الحوت.
ثم رأى فيما يراه النائم مياه البحر تندفع كتيار جارف أمام الباخرة الهادرة المخيفة مما أفقد “نونة” وصويحباتها توازنهن حين شاهدهن ينجرفن مع التيار الغامر المندفع إلى مؤخرة الباخرة التي كانت تجر شبكة عملاقة بدأت تظهر بجلاء عندما تقدمت الباخرة، كانت تحيط بنونة ومن معها من ملايين المخلوقات الكبيرة والصغيرة التي كانت تتدافع وتتقافز في فوضى واضطراب طلبا لنجاة بدأ أنها مستحيلة من شبكة بدأت تضيق بتزايد ضحاياها.
لم يدرك “حلس″ ما حصل بعد ذلك كأنما هول الصدمة قد افقده الوعي للحظات، قبل أن يرى “نونة” في مكان ملئ بثلاجات ضخمة وتعمه أضواء وأصوات غريبة لم يسمع مثلها من قبل، كانت أصوات بشر، لكنهم يختلفون تماما عن الذين عرفهم من قبل.
كانت “نونة” تنظر إليه بعيون جامدة نظرة رعب لم يخلصه منها إلا صوت منشار كهربائي يئزبصوت يصم الأذان لم يدرك غايته إلا حين وضع على عنق “نونة”، عندها قفز حلس قفزة رمت به خارج الشق الصخري وقلبه يدق كطبل بدائي افريقي دقات تمزق سكون الليل الذي كان يمتد حينها واصلا الأرض بالسماء.