ماذا جرى؟ هل انهزمت حقوق الإنسان؟
بقلم مصطفى الكتاب -عرف هذا الأسبوع صخبا إعلاميا قفزت خلاله قضيتنا الوطنية إلى الواجهة الأمامية في كل وسائل الإعلام، عندما تقدمت الإدارة الأمريكية ممثلة بمندوبتها الدائمة في مجلس الأمن بتقديم مشروع مقترح لخلق آلية مستقلة لمراقبة حقوق الإنسان في الصحراء الغربية وفي مخيمات اللاجئين الصحراويين، مثل ما أوصى بذلك تقرير الأمين العام الأممي الأخير، ونص المقترح الأمريكي على أن تتكلف بعثة الأمم المتحدة لإجراء الاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورصو) بالمهمة النبيلة.
عند أول التسريبات الإعلامية شهد العالم نفيرا واستنفارا وعصبية وهستريا قاربت الجنون في نظام المخزن المغربي، اجتماعات في القصر، تشكيلة خلية أزمة، بيانات أحزاب جوقته، تحريك وتهييج لمشاعر الشارع المغربي، مبعوثين ورسائل ووفود من مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية تجوب عواصم القرار الدولي، كل ذلك اللغط للتصدي لفكرة نبيلة تضمنتها مسودة، قصد إجهاضها قبل أن تولد!!
لماذا؟ ألأنها تفند مزاعم المخزن وادعاءاته بأن ما يسميه مبادرة الحكم الذاتي والجهوية الموسعة، مبادرة جدية وذات مصداقية، تحظى بإجماع دولي؟ ألأنها كشفت زيفه وكذبه أمام رأيه المخدوع منذ 1975؟ ألأنها تشكل نوعا من التجاوب الدولي مع معاناة الصحراويين كإعلان متأخر عن الاعتراف بحق استطاع أهله أي يوصلوه إلى مسامع العالم كله؟ مما سيفقده كنظام ويفقد نخبه الانتهازية ـ مدنية وعسكرية ومخابراتية ـ مصدر الرخاء الذي يعيشون فيه؟ ألا يدعي نظام المخزن أنه ديمقراطي؟ وأن آخر طبعة من دساتيره الممنوحة تؤسس لثقافة حقوق الإنسان؟ وأن الانتهاكات الفعلية تقع في مخيمات اللاجئين الصحراويين؟ وهؤلاء، ألا يتظاهر بمشاطرتهم آلامهم ـ متناسيا أنه سببها ـ ويرافع باسم الدفاع عنهم في كل منبر؟
وبعد كل ذلك اللغط والهرج المتوارث من "احلايقية" جامع الفنى، من حناشة وكرابة، ومتسولين (الاوباش حسب الحسن الثاني)، تراجعت إدارة اوباما عن مقترحها النبيل، وتنفس المخزن الصعداء ودق طبول النصر، وعم الفرح كل أرجاء المملكة "السعيدة".
وهنا تتناسل الأسئلة:
ـ لماذا تبادر الولايات المتحدة وتتراجع؟ هل لنقص في خبرة الإمبراطورية أو معلوماتها أو وسائلها في إنجاح هذا النوع من المبادرات؟ أو هل هو تحريك لقطعة في رقعة الشطرنج للحصول على غايات أخرى تمثل حاجة في نفس البنتاغون أو البيت الأبيض؟ أو هل ضعفت الإمبراطورية حتى أصبح في إمكان أي دولة من العالم الثالث أن تلوي ذراعها الحديدي؟
من جهة أخرى،
ـ كيف أمكن للمخزن أن يغامر بمواقف مثل إيقاف مناورة "الأسد الإفريقي" دون حسبة للعواقب؟ وكيف يتشدق وزير خارجيته عبر قناة الجزيرة جازما بأن المبادرة لن تمر؟ على ماذا يعتمد فيما ذهب إليه؟ هل كان هناك اتفاق تحت الطاولة وتوزيع أدوار بين الإمبراطورية وعميلها التاريخي؟
ثالثا، قد لا نتوقف عند الموقف الفرنسي ـ رغم ما يشوبه من تناقض، خاصة بعد تدخلها في مالي، والمسوغات التي قدمتها لذلك التدخل ـ حيث هو معروف لدى القاصي والداني منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، ولا الموقف الإسباني، فهذه ليست المرة الأولى التي تبيعنا فيها حكومة إسبانية يمينية أو يسارية، كما أنها لن تكون الأخيرة!! لكن المفاجئ هو الموقف الروسي، والسؤال هو لماذا؟
أسئلة قد تتعدد إجاباتها، والأكيد انها لن تكون شافية، والثابت في كل ما جرى، هو أنه لا وجود للمصادفات في مواقف الدول وخاصة الكبيرة منها.
أما النتيجة، فلم تأت بجديد، فعلا تراجعت الولايات المتحدة، وتغنى المخزن بانتصاره، لكن، هل غيّر ذلك من جوهر القضية؟ لا، لأنها كانت ومازالت وستبقى، قبل المبادرة الأمريكية وبعدها، قضية تصفية استعمار غير مكتملة، في نظر المجتمع الدولي، وفي نظر القانون الدولي، وفي نظر أهلها وهذا هو الأهم. لذا لا بد من استحضار مجموعة من الاعتبارات التاريخية لفهم ما جرى، مثلا:
ـ المواقف المعبر عنها خاصة من العواصم سواء في الغرب أو الشرق ـ باستثناء روسيا ـ منسجمة مع تاريخها، حيث يجب أن لا ننسى من كان وراء اتفاقية مدريد اللصوصية، ومن قدم الدعم العسكري بكل سخاء لنظام المخزن المغربي في حربه الظالمة ضد شعبنا.
ـ موقف النظام في المغرب منسجم هو الآخر مع طبيعته ونهجه الاستعماري كدولة وظيفة، ورؤيته التوسعية، وجوهره العفن.
ـ الأمم المتحدة خاضعة لإرادة أقويائها الذين امتهنوا سياسة الكيل بمكيالين، ويمعنون في التلاعب بقيم الإنسانية، وتبرير الظلم والاستهتار بكرامة الإنسان تحت شعارات حماية حقوق الإنسان، مؤكدين من خلال أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم المساواة بين الظالم والمظلوم، لذا نجد الهيئة الدولية عاجزة عن الامتثال لميثاقها وتطبيق قراراتها وتوصياتها.
مع أنه لا يجب إهمال ما عرفه العالم من تطورات وتحولات أدت إلى حصول ربيع عربي خلط المفاهيم وأربك التحاليل لما جاء به من تبدل في التحالفات وأفول أنظمة وسطوع نجم قوى سياسية كانت بالأمس القريب مستبعدة.
اما الانتصار الذي يتغنى به المخزن، وتعلله أبواق دعايته أحيانا بتدخل ملكي مباشر ومكالمة هاتفية سحرية، غيرت مجرى الأحداث، وأحيانا بالتمسك بوحدة ترابية موهومة تتخذها النخبة الانتهازية مطية للحصول على مكاسب سياسية ومادية على حساب الشعبين الشقيقين في الصحراء الغربية وفي المغرب، وتارة تدعي تلك الأبواق أنها قوة ومتانة تحالفات "الدولة العتيدة" ومصداقيتها بين الأمم.
فهل حقا شكل الحدث هزيمة لحقوق الإنسان حتى يشعر منتهكوها بلذة نصر يتغنون به؟ وهل التحالف ضد الإنسان وحقوقه تعبير عن قوة تحالفات ومصداقية عالمية؟
ينبئنا التاريخ والتجربة الإنسانية أن الحق منتصر دائما مهما طال الزمن، وأن أهم صفاته هي عدم التقادم. أما ما يمكن استخلاصه من أحداث الأسبوع فهو أن الحق دائما يربك الطغاة لأنه أقوى منهم، وستؤكد ذلك توصية مجلس الأمن، لأنها ستكون قابلة لأكثر من قراءة!! لأن من يقومون على تحريرها يخشون الحق، وسيسهرون على إفراغها من محتواها بتضمينها عبارات منتقاة من قاموس الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، قبل أن يصوت عليها بإجماع.